"الميراث الذي سنتركه للأجيال القادمة"

يوم السبت 17/03/2018، ألقى أمير المؤمنين حضرة ميرزا مسرور أحمد، إمام الجماعة الإسلامية الأحمدية العالمية، الخليفة الخامس (أيده الله تعالى بنصره العزيز)، الخطاب الرئيس في منتدى السلام السنوي الخامس عشر في المملكة المتحدة، والذي تستضيفه الجماعة الإسلامية الأحمدية في بريطانيا. وقد أقيم هذا الحدث في مسجد بيت الفتوح في لندن وحضره أكثر من 550 ضيفا من غير الأحمديين بما فيهم وزراء في الحكومة وسفراء دول وأعضاء في البرلمان وغيرهم من كبار الشخصيات والضيوف. تجدون أدناه النص الكامل للخطاب الذي ألقاه حضرته في هذه المناسبة.

قال أمير المؤمنين حضرة ميرزا مسرور أحمد، إمام الجماعة الإسلامية الأحمدية العالمية، الخليفة الخامس (أيده الله تعالى بنصره العزيز):

بسم الله الرحمن الرحيم
الضيوف الكرام
السلام عليكم ورحمة الله وبركاته،
بدايةً، أود أن أشكر جميع ضيوفنا لانضمامهم إلينا هنا في ندوتنا السنوية للسلام.
على مدى السنوات الخمس عشرة الماضية، تقوم الجماعة الإسلامية الأحمدية بتنظيم واستضافة منتدى السلام هذا من أجل تعزيز السلام العالمي. ربما يتساءل بعضكم عن فائدة تنظيم هذا الحدث كل عام، بالنظر إلى أن سلام العالم -سواء في البلدان الإسلامية أو في أي مكان آخر- لم يتحسن على الإطلاق خلال هذه الفترة؛ بل على العكس ازداد تدهورًا، وبات جزء كبير من العالم يعاني من الانقسام المتزايد والكراهية والظلم، وأصبح المجتمع الدولي متقطبًا واندلعت الحروب، وهددت الدول بعضها بعضًا، وازداد التفاوت بين البلدان النامية والمتقدمة.
وبالنظر إلى هذه الحالة، فإن سؤالكم صحيح تمامًا، ومع ذلك، فإن ديننا يطالبنا بمحاولة حث الناس في جميع أنحاء العالم، سواءًا كانوا أغنياء أو فقراء، أقوياء أو مضطهدين، متدينين أو غير متدينين على السلام والعدالة. وبالتالي فإننا سنواصل لعب دورنا في جعل البشرية تدرك واجبها في احترام القيم الإنسانية الأساسية والوفاء بها. إن تعاليم الإسلام الأساسية هي: أداء حقوق خالقنا وأداء حقوق إخواننا البشر.
مع هذه المقدمة القصيرة، أود الآن أن أغتنم هذه الفرصة لأتكلم عن بعض الأمور التي أعتبرها ذات أهمية كبيرة في هذه الأوقات المضطربة.
في عالم اليوم، كثيرا ما نرى القوى الكبرى والمؤسسات الدولية تضع المخططات أو الخطط التي تهدف إلى تحسين حياة الناس في جميع أنحاء العالم. وفي الآونة الأخيرة، كانت إحدى القضايا التي ناقشها العديد من السياسيين والمفكرين مسألة تغير المناخ وبالتحديد تخفيض انبعاثات الكربون.
السعي إلى حماية البيئة والعناية بكوكبنا يمثل قضية ذات أهمية ونبيلة للغاية بالتأكيد، ومع ذلك ينبغي في الوقت ذاته أن يدرك العالم المتقدم، ولا سيما قادة العالم، أن هناك قضايا أخرى يجب معالجتها بنفس الإصرار.
إن الأشخاص الذين يعيشون في أفقر دول العالم لا يهتمون بالبيئة أو بأحدث الأرقام المتعلقة بانبعاثات الكربون؛ بل هم يستيقظون كل يوم متسائلين عما إذا كانوا قادرين على إطعام أطفالهم. وإن محنتهم الاقتصادية تبعث على اليأس حقًا، ومستوى فقرهم بعيد كل البعد عن إدراكنا. على سبيل المثال، هناك العديد من البلدان التي لا يحصل فيها أغلبية المواطنين على مياه الشرب النقية وهم مجبرون على المحافظة على حياتهم باستهلاك مياه المستنقعات القذرة لتلبية احتياجاتهم الأساسية. وحتى هذه أيضًا لا تتوفر بسهولة؛ بل على النساء والأطفال السفر كل يوم بلا توقف لأميال من أجل جلب المياه لعائلاتهم، فيحملونها إلى بيوتهم في أوعية كبيرة يحملونها على رؤوسهم.
يجب ألا نعتبر هذه المعاناة مشكلة الآخرين، بل يجب أن ندرك أن هذا الفقر تنتج عنه آثار خطيرة على العالم الأوسع وتؤثر بشكل مباشر على السلم والأمن العالميين. وحقيقة أن الأطفال ليس لديهم خيار إلا قضاء أيامهم في جلب المياه لعائلاتهم يعني أنهم غير قادرين على الذهاب إلى المدرسة، أو تحصيل أي شكل من أشكال التعليم. إنهم عالقون في حلقة مفرغة من الأمية والفقر، يبدو أنه لا نهاية لها وهي تدمر المجتمع بشكل كبير. واليوم، يتفاقم فقرهم وعناؤهم بسبب التكنولوجيا الحديثة، التي يستطيع من خلالها حتى الأشخاص الذين يعيشون في أجزاء من العالم مزقتها الحروب أو الحرمان أن يروا الرفاهية التي يعيشها الناس في البلدان المتقدمة والفرص المتاحة لهم. إن رؤية التفاوت الكبير في ظروفهم مقارنة مع غيرهم، تزرع مزيدًا من الهيجان بين السكان المحليين، ويتم اصطياد هذا الشعور بالإحباط من قبل المتطرفين الذين يغرون الفقراء بالمكافآت المالية والوعود بحياة أفضل لعائلاتهم. وبالمثل، فإن استهداف الشباب الأمي يعني أن للمتطرفين مجالا حرا في تحويلهم إلى التطرف وغسل أدمغتهم. ويستغل المتطرفون حقيقة أن حكام تلك البلدان قد خذلوا شعوبهم في معظم الأحيان.

 

ومما يؤسف له أن الطبقات الحاكمة في البلاد التي مزقتها الحروب أو البلاد المحرومة، غالبًا ما تهتم بالحفاظ على سلطتها وقوتها أكثر من المساعدة في التخفيف من معاناة شعوبها. والنتيجة هي أن أولئك الذين لا يملكون شيئًا، ينظرون إلى زعمائهم الفاسدين بازدراء ويرون القوى الكبرى في العالم كعدو. ومع الأسف نحن نرى الآثار المروعة لهذا في الدول الإسلامية أيضًا، وإنه وبعد رؤية الحالة اليائسة لبلدانهم الأصلية، فإن بعض المسلمين الذين نشأوا في العالم المتقدم قد حُوِّلوا إلى التطرف وارتكبوا هجمات إرهابية مروعة هنا الغرب.
وبالتالي فإني أعتقد اعتقادا راسخا أنه إذا كنا نرغب حقا في حماية عالمنا وضمان أن نترك وراءنا إرثًا من الفرص للّذين سيأتون بعدنا، فمن الضروري أن يتم بذل كل جهد ممكن لرفع معايير العالم النامي. يجب عدم النظر إلى الدول الفقيرة باستخفاف، بل يجب أن نعتبرها جزءًا من عائلتنا - إخواننا وأخواتنا. وبمساعدة الدول النامية على الوقوف على قدميها، ومن خلال منح الناس الفرص والأمل، سنكون في الواقع نساعد أنفسنا ونحافظ على مستقبل العالم. وإلا فإننا نرى بالفعل أن الفقر والعوز في العالم النامي يؤثران سلبا على بقية العالم أيضا.
علاوة على ذلك، ونتيجة للهجمات الإرهابية الأخيرة والهجرة الواسعة النطاق إلى الغرب، كان هناك أيضا ارتفاع خطير في النزعات القومية في العديد من البلدان الغربية، مستحضرين مخاوف أيام الماضي المظلمة. ومما يبعث على القلق بشكل خاص أن الجماعات اليمينية المتطرفة أصبحت أكثر جلافة، وقد شهدنا زيادة في مشاركتها في الحكومات وحققت مكاسب سياسية، هم أيضا متطرفون ويسعون إلى تسميم المجتمع الغربي عن طريق تحريض الجماهير ضد أولئك الذين يختلفون عنهم في اللون أو في المعتقدات.
بالإضافة إلى ذلك، أصبح خطاب بعض زعماء العالم النافذين أكثر قومية وعدائية، حيث تعهدوا بوضع حقوق مواطنيهم فوق حقوق الآخرين. لا أشكك في حقيقة أنه تقع على عاتق الحكومات والقادة مسؤولية رعاية شعوبهم وحماية مصالحهم. بالتأكيد، طالما أن القادة يتصرفون بعدالة، ولا ينتهكون حقوق الآخرين، فإن محاولات تحسين حياة مواطنيهم هي فضيلة عظيمة. ولكن السياسات التي تستند على الأنانية والجشع والاستعداد لمصادرة حقوق الآخرين هي سياسات خاطئة ووسيلة لزرع الخلاف والانقسام في العالم.
أنتقل الآن إلى قضية أخرى، وهي تجارة الأسلحة الدولية. اليوم، يعتبر العالم نفسه أكثر تحضرًا مما كان عليه في أي وقت مضى، ولكن في عام 2018، هناك دول يتم هدمها وإبادتها بواسطة أسلحة لا يمكن تصنيفها إلا بأنها أسلحة وحشية. في دول مثل سوريا والعراق واليمن، تقاتل القوات الحكومية والمتمردون والمنظمات الإرهابية بعضها بعضًا، وعلى الرغم من مصالحهم المتباينة، إلا إن لديهم جميعا شيء واحد مشترك وهو أن الغالبية العظمى من أسلحتهم قد تم إنتاجها في الخارج، في العالم المتقدم. فبكل علانية وبكل فخر، تقوم القوى الكبرى بالاتجار بالأسلحة التي تُستخدم لقتل الأبرياء والهجوم عليهم وتشويههم.
ومما يؤسف له أن هذه الدول تركز فقط على المحاولات الرامية إلى تعزيز اقتصادها وتعظيم رأس مال بلدها دون التوقف للتفكير في العواقب. إنهم يسعون بشدة للحصول على أكبر العقود الممكنة لبيع الأسلحة التدميرية التي لا تفرق عند إطلاقها بين الأبرياء والمذنبين. وهم يبيعون بفخر أسلحة لا تستثني الأطفال أو النساء أو العجزة. إنهم يبيعون بلا خجل الأسلحة التي تبتلع المدن والبلدات وتمحوها دون تمييز. وفي حين أن اقتصادات البلدان التي تبيعها قد تحقق منافع قصيرة الأجل، إلا أن أيديها ملطخة بدم مئات الآلاف من الناس. ويرى عدد لا حصر له من الأطفال أن آباءهم يتعرضون للقتل بأبشع صورة غير إنسانية، وكل ما يمكنهم فعله هو أن يتساءلوا لماذا تم أخذ أهاليهم منهم! وآلاف النساء قد أصبحن أرامل وعاجزات وضعيفات.
ما هو الخير الذي يمكن أن يأتي من هذا الخراب؟
كل ما أراه هو جيل من الأطفال الذين يتم دفعهم إلى أحضان أولئك الذين يسعون إلى تدمير سلام العالم. عندما يرى طفل صغير أو مراهق أن والديه قد أخذا منه بأكثر الطرق همجية، فمن يستطيع أن يلومه على الرد؟ لقد ذكرت آنفًا أن المتطرفين يستهدفون أولئك الذين يعيشون في الفقر ويستهدفون الأطفال أو الشباب الذين تعرضوا لوحشية الحرب. إنهم يجندون مثل هؤلاء الصغار لعلمهم أن عقولهم لم تنضج بعد، ويمكن التلاعب بها بسهولة، في السعي للانتقام الدموي من خلال الإرهاب. وبدلاً من التحاقهم بالمدرسة وتحصيلهم التعليم بحيث يتحولون إلى مواطنين محترمين ملتزمين بالقانون، فإن التعليم الوحيد الذي يحصل عليه جيل كامل من الأطفال، هو كيفية إتقان استخدام القنابل اليدوية أو قاذفات الصواريخ، وكيفية القيام بهجمات انتحارية وكيف يعيثون فسادا في العالم. وعلاوة على ذلك، فإن بعض البلدان تشترك دون داعٍ في صراعات تقع على بعد آلاف الأميال منها عن طريق نشر جنودها أو عن طريق قصف الأراضي الأجنبية بضربات جوية.
في العديد من الحالات، يبدو أن العالم لم يتعلم من أخطاء الماضي. الأمر المسلم بصحته على نطاق واسع هو أن حرب العراق عام 2003 لم تكن عادلة وكانت قائمة على أساس التظاهر الزائف، بينما انحدرت ليبيا إلى حالة من الفوضى وأصبحت مرتعًا للتطرف منذ أن بدأت القوى الغربية باتخاذ الإجراءات هناك قبل عدة سنوات. ورغم ذلك، لم تتعلم القوى الكبرى درسًا من هذا. تم تدمير المدن والبلدات على الأرض، وتحولت آلاف المباني إلى رماد.
في البداية، ذكرتُ أن التركيز الرئيس للمجتمع الدولي هو تغير المناخ والرغبة في الحفاظ على الهواء الذي نتنفسه نظيفًا. هل هناك من يعتقد أن القصف الشديد ليس له تأثير على الجو؟ وعلاوة على ذلك، إذا ساد السلام في البلدان التي مزقتها الحروب، فيجب إعادة بناء بلداتها ومدنها من الصفر، وهذا بحد ذاته سيكون صناعة ضخمة ستؤدي إلى زيادة الانبعاثات الضارة والتلوث. وهكذا، فمن ناحية، نحن نحاول إنقاذ الكوكب، لكننا من ناحية أخرى، نقوم بتدميره بلا معنى. في ضوء كل هذا، أعتقد اعتقادا راسخا أن القوى العالمية قد عميت بسبب قصر النظر وضعف البصر.
إحدى الحجج الرئيسة التي قدمها أولئك الذين يؤيدون صناعة الأسلحة هي أن شراء الأسلحة هو وسيلة للردع والحفاظ على السلام. ولكن يتعين علينا فقط تشغيل أجهزة التلفاز ومشاهدة الأخبار لمدة دقيقة لنرى أن مثل هذه الحجج مضللة وغير صحيحة بشكل واضح. من المؤكد أن آلاف الأطفال الأبرياء الذين فقدوا أهاليهم، أو فقدوا أطرافهم، لن يقتنعوا أبدًا بمثل هذا المنطق، وكذلك الحال بالنسبة لآلاف النساء اللاتي ترملن، أو ملايين الأشخاص الذين نزحوا عن ديارهم. وإذا أردنا أن نترك وراءنا إرثًا من الأمل لأطفالنا، وأن نترك عالمًا سلميًا لأجيالنا المستقبلية، فإننا وبغض النظر عن ديننا أو معتقداتنا، نحتاج إلى تغيير أولوياتنا على وجه السرعة.
فبدلاً من أن تستنفدها المادية والرغبة في السلطة، يجب على كل دولة، سواء كانت غنية أو فقيرة، أن تعطي الأولوية للسلام والأمن في العالم بأكمله قبل كل شيء آخر. وبدلًا من الشروع في سباق تسلح يؤدي إلى الموت والدمار، يجب أن ننضم إلى سباق إنقاذ البشرية وحمايتها، وبدلًا من إغلاق الحدود والموانئ في البلدان المتحاربة مما يتسبب في ترك الأطفال الأبرياء يتضورون جوعًا ومحرومين من العلاج الطبي، يجب أن نفتح قلوبنا لبعضنا بعضًا ونهدم الجدران التي تفرق بيننا، ونطعم الجياع ونساعد الذين يقاسون المعاناة.
وفيما يتعلق بالتنافس السياسي، لا يزال النزاع بين الولايات المتحدة وكوريا الشمالية يهدد سلام العالم، وأي صراع بين الاثنين من شأنه أن يؤثر بشدة على بلدان مثل كوريا الجنوبية والصين واليابان. وبينما قيل في الأيام القليلة الماضية إنه كان هناك انفراج -لأن رئيس الولايات المتحدة قد أشار فجأة إلى استعداده للقاء الزعيم الكوري الشمالي - ومع ذلك، لا توجد ضمانات بأن يسود السلام. ليس من الواضح حتى تحت أي ظروف سوف يجتمعان، أو أين ومتى سيُعقد هذا الاجتماع. وحتى لو عُقد اتفاق، لا يعلم أحد سوى الله المدة التي سيطولها، حيث أن هناك قدرٌ كبيرٌ من الكراهية المترسخة في كلا الجانبين. والاتفاق النووي الإيراني الذي عُقد قبل بضع سنوات مثالٌ على ذلك، حيث تم التوصل إلى اتفاق تفاوضي بين إيران والغرب، ولكن الآن، بعد بضع سنوات فقط، تم تعليق الصفقة بخيط رفيع.
ومن ثم، هناك العديد من القضايا التي تحوم بشكل غير مباشر تحت السطح ويمكن لأي منها أن يثور في أي وقت، بحيث تكون العواقب أمرًا لا يحتمل التفكير. ولكن، يعلّمنا الإسلام أنه لا يمكن تحقيق السلام إلا عندما يتم إزالة كل آثار سوء النية والحقد من قلوب الناس واستبدالها بروح الرحمة والمحبة والتعاطف مع الآخرين.
غالبًا ما يوصف الإسلام بأنه دين متطرف يحرض على العنف، ويُزعَم أيضًا أن أعدادًا كبيرة من المسلمين غير موالين لبلدانهم، أو يسعون إلى نشر الفوضى داخل المجتمع. ولكني أرى أن هذه الادعاءات كاذبة وغير منصفة. على الرغم من أن الإرهابيين المسلمين المزعومين يدّعون العمل باسم الإسلام، إلا أنني لا أعتقد أننا نشهد حربًا دينية. وإنما الحروب التي تُخاض والفظائع المرتكبة هي فقط من أجل المكاسب الجيوسياسية. إن ما يسمى بالإرهابيين الجهاديين ورجال الدين المتطرفين لا يقومون إلا بتشويه اسم الإسلام وتقويض جهود الغالبية العظمى من المسلمين الذين هم مواطنون مسالمون ملتزمون بالقانون. وبلا شك، منذ البداية، رفض الإسلام جميع أشكال التطرف، وآيات القرآن الكريم التي تُليت في وقت سابق هذه الليلة، تقدم دليلاً واضحًا على ذلك. تخبرنا هذه الآيات أن الحروب الإسلامية المبكرة قد خيضت من أجل حماية جميع الأديان والحفاظ على المبدأ المقدس لحرية المعتقد. وتذكر هذه الآيات بشكل قاطع أنه يجب حماية الكنائس والكنس والمعابد والمساجد.
قدّمتُ هذه النقطة مرارًا وتكرارًا، وأؤكد من جديد، أن كل من ينتهك القيم العالمية لحرية المعتقد وحرية الضمير، بعيد كل البعد عن الإسلام. حتى في وسائل الإعلام الغربية، هناك منشورات تقبل هذا، وأنا أثني عليها لدفاعها عن الحق والعدالة. على سبيل المثال، تم نشر عمود في الغارديان مؤخرًا قال فيه الكاتب:
"الإرهاب الإسلامي لم يكن أبدًا من أجل تعزيز الإسلام وأجزم أنه لا يزال كذلك. لقد كان دائمًا حول حقوق الأرض وسرقة الموارد الطبيعية والاقتصادية والسياسات النقدية العالمية التي تركت مجتمعات سكانية بأكملها في البلدان الإسلامية تعيش في حالة من الحرمان والعوز".
هذه الكلمات تصور بدقة واقع الإرهاب الذي يقوم به ما يسمى بالمسلمين. علاوة على ذلك، في عمود نشر في صحيفة محلية، قدم الصحفي بيتر أوبورن أدلة دامغة على أن عددًا كبيرًا من المسلمين قد أصبحوا متطرفين، على الأقل إلى حد ما، نتيجة تدخل بعض وكالات الاستخبارات الغربية. وفي هذا الصدد، اقتبس الصحفي من كلام ضابط استخبارات بريطاني سابق حيث يقول:

"ليس صحيحًا أن تقوم من ناحية قوات الشرطة المحلية ببذل كل جهدها لحماية مجتمعاتنا من خلال محاربة الإرهاب، بينما، من ناحية أخرى، تقوم عناصر في أجهزتنا الأمنية والأمريكية، بتسليح وتدريب الجهاديين والتواطؤ في الإرهاب".
علاوة على ذلك، في مقال نشرته The Boston Globe، يقول البروفيسور جيفري ساكس، مدير مركز التنمية المستدامة في جامعة كولومبيا:
"أطاحت وكالة المخابرات المركزية الأمريكية بالحكومات في الشرق الأوسط في مناسبات لا تعد ولا تحصى. لقد مال نقاد الإعلام إلى تجاهل دور الولايات المتحدة في عدم الاستقرار هذا".
وعن تأييده الحلول السلمية متعددة الأطراف للصراع، كتب البروفيسور ساكس:
"يجب على الولايات المتحدة أن تنهي قتالها فورًا في الشرق الأوسط وأن تتحول إلى دبلوماسية مقرها الأمم المتحدة من أجل حلولٍ وأمن حقيقيين".

هناك العديد من الأعمدة التي نشرت في الآونة الأخيرة من قبل غير المسلمين والتي تثبت حقيقة أن الجماعات الإرهابية مثل داعش لا يمكن أن تكون قد نشأت دون دعم خارجي. أنا لا أقول إنه من الخطأ دائمًا التدخل، لكن أي إجراء يجب أن يكون عادلاً ومتناسبًا ويجب وضع المصلحة الخاصة جانبًا.
تقول الآية 10 من سورة الحجرات من القرآن الكريم: "وَإِن طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِن بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ فَإِن فَاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا بِالْعَدْلِ وَأَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ" أي أن الهدف من أي تدخل يجب أن يكون دائمًا إقامة سلام طويل الأمد، وهي تأمر المسلمين بأن يعدلوا حتى مع خصومهم. وهكذا، وحيث أعطى الإسلام الإذن- كملاذ أخير- للمسلمين الأوائل لخوض حربٍ دفاعية، فإنه أمرهم أيضا بأن يفوا بمتطلبات العدالة وأن لا يتأثروا أبدا بالمصالح الشخصية وأن لا يعتدوا بحجة إقامة السلام.
من المؤكد أن هذا المبدأ العميق مفيدٌ اليوم، سواء بالنسبة للمسلمين أو غير المسلمين على حد سواء، أنه حيثما يتطلب الأمر قوة لوقف المعتدي عن إلحاق الأذى، يجب أن يظل العمل متناسبًا ولا يدخل أبدًا في عالم السعي إلى الانتقام أو نهب ثروة المهزوم. وبمجرد أن يجنح المعتدي إلى السلام، لا يجوز حرمانه من حقوقه أو استغلاله بأي شكل من الأشكال.
طوال حياته، سعى نبي الإسلام (صلى الله عليه وسلم) إلى جمع الناس معًا في سلام، وكان على استعداد للتخلي عن حقوقه الخاصة لصالح الآخرين. كثير من الكتّاب والأكاديميين غير المسلمين، ممن درسوا الإسلام بعناية، يشهدون على حقيقة أن النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) قد سعى إلى توحيد المجتمعات ودافع عن حرية المعتقد. على سبيل المثال، ذكر بيتر فرانكوبان، وهو باحث زميل مخضرم في جامعة أكسفورد، النبي الأكرم (صلى الله عليه وسلم) في كتابه "طرق الحرير"، وشرح المؤلف كيف سعى النبي محمد (صلى الله عليه وسلم) إلى الانسجام والحوار بين الأديان، وكيف عمل بشكل وثيق مع الجماعتين المسيحية واليهودية في ذلك الوقت.
ثم تحدث عن "الأرضية المشتركة" بين الطوائف الدينية في تلك الحقبة وكيف أن رسالة النبي الأكرم (صلى الله عليه وسلم) كانت رسالة "صلح". وفي مقطع، أشار المؤلف إلى الفترة التي تم فيها تعيين نبي الإسلام (صلى الله عليه وسلم) كقائد إداري للمدينة حيث كتب:
"تعهد يهود المدينة بدعم محمد مقابل ضمانات للدفاع المشترك، وقد وضع هذا في وثيقة رسمية ذكرت أنه سيتم احترام دينهم وممتلكاتهم الخاصة الآن وفي المستقبل من قبل المسلمين"
ثم كتب:
"ذهب محمد وأتباعه إلى أبعد مدى لتهدئة مخاوف اليهود والمسيحيين مع توسع السيطرة الإسلامية"
وهكذا، فإن الحقيقة هي أن الإسلام كان دائمًا معارضا تمامًا لأي شكل من أشكال الإرهاب أو التطرف. علاوة على ذلك، وفي حين أقبل أن الأعمال الشريرة لبعض المسلمين قد أضرت كثيرا بالمجتمع، فأنا لا أقبل أن المسلمين هم فقط الذين يقع عليهم اللوم في تقلبات عالم اليوم. يقول العديد من المعلقين والخبراء الآن بشكل علني إن بعض القوى والجماعات غير المسلمة لعبت أيضًا دورًا في تقويض السلام والتماسك الاجتماعي.
يكفي القول إن الوقت الآن هو الوقت الذي نأت فيه الإنسانية عن فكرة أن المسلمين هم وحدهم المسؤولون عن المشاكل في العالم.
علاوة على ذلك، حان الوقت أيضًا، بدلاً من إعطاء الأولوية لتقدم أحزابهم السياسية أو حكوماتهم، أن يعطي قادتنا الأولوية للسلام والرخاء المستقبليين للإنسانية.
هذه هي الطريقة لتحقيق السلام الحقيقي في العالم.
على المستوى الدولي الأوسع، يجب أن نعترف بحقيقة أن القوة نادرًا ما تؤدي إلى أي فائدة على المدى الطويل. وهكذا، عند التعامل مع كوريا الشمالية أو إيران أو أي بلد آخر، ينبغي على القوى الكبرى أن تتوخى الحذر والحكمة وتسعى للاستماع إلى مصالح جميع الأطراف. وكما قيل في أحد الأعمدة التي ذكرتها، فإن على القوى العالمية أن تنتهج الدبلوماسية وتعطي الأولوية لتهدئة التوترات، عليهم أن يسعوا للتفاوض على صفقات واتفاقات سلام غير متحيزة لصالح جانب واحد وإنما تراعي مصالح جميع الأطراف. علاوة على ذلك، بمجرد أن يتحقق السلام، يجب أن نترك أي عداوات أو كراهية سابقة ونمشي قدما بروح الاهتمام والاحترام المتبادل.

بالتأكيد فإن قناعتي واعتقادي الراسخَين بأن المثال الأعظم الوحيد على الغفران والإحسان والرحمة في تاريخ البشرية هو المثال المبارك لمؤسس الإسلام، النبي محمد (صلى الله عليه وسلم)، فلمدة ثلاثة عشر عاما، تعرض وأتباعه لاضطهادٍ وحشي لا يمكن تخيله وتم طردهم من منازلهم وأجبروا على الهجرة من مدينة مكة. وخلال تلك الفترة، تم قتل المسلمين بوحشية وعُذبوا جسديًا ونفسيًا وتعرضوا لأقسى أنواع الحرمان الاجتماعي. وأُرغم المسلمون على الاستلقاء مباشرة على الفحم المحترق لفترات طويلة، وتم ربط النساء المسلمات من أقدامهن بجملَين حيث كان يتم تسيير كل جمل في اتجاهٍ معاكس للآخر مما أدى إلى شطر أجسادهن إلى جزئين منفصلين. ومع ذلك، عندما عاد الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم) إلى مكة منتصرًا، لم يرق قطرة دمٍ واحدة في الانتقام. بدلا من ذلك، ووفقا لأمر الله سبحانه وتعالى، أعلن العفو المباشر العام مباشرة عن كل الذين عذبوه وعن كل من عارض الإسلام بالعنف، وأعلن أنه في ظل الحكم الإسلامي سيكون كل الناس أحرارًا في ممارسة دينهم ومعتقداتهم، دون أي تدخل أو سبب للخوف، وكان شرطه الوحيد أن يلتزم كل شخص في المجتمع بالسلام، وأصدر تعليماته بأن على جميع الناس، بغض النظر عن طائفتهم أو عقيدتهم أو لونهم، أن يتمتعوا بحقوقهم وأن يُعامَلوا باحترام في جميع الأوقات.
كان هذا هو المثال الخالد والرائع لنبي الإسلام (صلى الله عليه وسلم)، وهذه هي روح الرحمة والمواساة التي يحتاج المسلمون وغير المسلمين إلى تبنيها في العالم اليوم. هذه هي روح المغفرة والإحسان التي تحتاج كل الأمم إلى إظهارها، سواء كانت كبيرة أو صغيرة، غنية أو فقيرة. عندئذ فقط يمكن تحقيق السلام على المدى الطويل.
من كل قلبي، أدعو أن يدرك الناس واجباتهم تجاه بعضهم بعضا، بحيث يتذكرنا الذين يتبعوننا بفخر وامتنان. دعونا نتطلع إلى الغد وليس إلى اليوم فقط، دعونا ننقذ أجيالنا المستقبلية. أدعو الله أن يرزقنا الحكمة.
أشكركم مرة أخرى على انضمامكم إلينا هنا هذا المساء. شكرا جزيلا."
 

خطبة الجمعة

خطبة الجمعة التي ألقاها حضرة أمير المؤمنين أيده الله بتاريخ 10-12-2021

خطبة الجمعة التي ألقاها حضرة أمير المؤمنين أيده الله بتاريخ  10-12-2021

مشاهدة الخطبة

الأخبار
إمام الجماعة الإسلامية الأحمدية يلقي خطبة عيد الفطر من إسلام أباد
أمير المؤمنين أيده الله يُهيب بالأحمديين أن يدعوا للشعب الفلسطيني المظلوم وأسرى الجماعة في اليمن
100 عام على وجود الجماعة الإسلامية الأحمدية في غانا:اختتام الجلسة السنوية التاريخية في غانا لعام 2024 بخطاب ملهم للإيمان
وفد من خدام الأحمدية من ولاية كونيتيكت في الولايات المتحدة الأمريكية يتشرف بلقاء إمام الجماعة الإسلامية الأحمدية العالمية
اختتام جلسة قاديان السنوية لعام 2023 بخطاب ملهم للإيمان
أنصار الله من فرنسا يتشرفون بلقاء افتراضي مع إمام الجماعة الإسلامية الأحمدية العالمية
إمام الجماعة الإسلامية الأحمدية العالمية يحذر من أن الحرب العالمية تلوح في الأفق
إمام الجماعة الإسلامية الأحمدية العالمية يدعو إلى وقف التصعيد في الحرب الفلسطينية الإسرائيلية
إمام الجماعة الإسلامية الأحمدية العالمية يلقي الخطاب الختامي في الاجتماع الوطني لمجلس أنصار الله في المملكة المتحدة
الاشتراك في القائمة البريدية

انضموا للقائمة البريدية واطلعوا على كل ما هو جديد في الموقع.